ينطلق فيلم زهرة الصبّار من حالة الافتتان الذاتي والرثاء الذاتي المميزة لعوالم الفنان المهزوم. الفنان المصلوب المعذَّب في استعارته عن فكرة النبي الذي لا يؤمن به قومه، الذي يتألم ويعتصره الألم، ويحمل على عاتقه رسالة، ويسير فوق الأشواك، ويقذف بالطوب، ويطرد ويشرّد. النبي المهزوم، الذي لا يصدقه أحد بينما هو مازال “مصدق” في رسالته.
يحكي الفيلم عن رحلة ثلاثة: ياسين وسميحة وعايدة في شوارع القاهرة، للبحث عن مأوى وخلاص بعد أن طردت صاحبة العمارة الأخيرتين من غرفتيهما فوق السطوح. يرتبط الثلاثة بالفن بطريقة ما أو بأخرى. عايدة ممثلة تحاول شق طريقها، سميحة التي تنتمي لجيل السبعينات، كانت تتحرك في شبابها وسط شلل مثقفي هذه الفترة. أما ياسين فهو مراهق يغني راب ويحاول إنشاء راديو على الإنترنت.
يقول منشور الفيلم عن الثلاثة: «هم ثلاثة غرباء جمعتهم الظروف». هم ليسوا ثلاثة غرباء، هم ثلاثة أجيال مصرية تمثل ليس فقط مراحل مختلفة من عمر هذه البقعة الموبوءة، ولكن ثلاثة تمثيلات لنموذج «الفنان» في كل فترة. أما الظروف التي جمعتهم فهي «مصر» بالطبع.
لذا يمكن اعتبار هذا الفيلم صورة مصغّرة/ مرآة تختصر رؤية معينة لمخرجة الفيلم عن دور «الفنان»، والتي يبدو أنها لا تمتلكها بمفردها، وإنما في الغالب تنبع من تمثّلها لتخيلات الفنانين في مصر عن موقعهم وعن أنفسهم.
«انتي لسه مصدقة في إن الفن رسالة والكلام الفارغ ده؟»
تقول هند لصديقتها عايدة، حين تقابلا لأول مرة منذ سنوات طويلة، صدفة في إشارة مرور. تنادي هند على عايدة لتركب معها السيارة. تحجبت هند وتزوجت رجلًا غنيًا اشترط عليها أن تقطع علاقتها بالشلة القديمة. اعتزلت الفن وتطلب الآن من الله أن يغفر سيئاتها أيام كانت “مؤمنة” به.
تنقبض عايدة من تهكم هند، قبل أن تقطع حديثهما بائعة «فل» تخترق زجاج السيارة. تنهرها هند، بينما تشتري عايدة “الفل” وتناوله لهند، التي تشمه مشمئزة: «يع راشينه كولونيا ولاد الحرام». تتألّم عايدة لما آل إليه حال صديقتها، وفقدانها براءتها وشغفها بتفاصيل الحياة الجميلة البسيطة.
يلخص هذا المشهد مقاربة يرسمها الفيلم بين الفن وبين البراءة والطهر، ويقوي هذه المقاربة بمفارقة أن الطاهرة ليست المتدينة ذات الإيمان الظاهري وإنما الفنانة، رسولة الإله، والتي عذابها وهزيمتها في الدنيا إشارتان لفساد الزمن.
يعتبر هذا المشهد مدخلًا لقراءة الفيلم: ماهي فكرة زهرة الصبار عن الفن؟
«أنا بحب بنت الفلاحة اللي متدارية جوه الفنانة الممثلة المبدعة»
يقول مراد حلمي أستاذ عايدة الذي تلقفها بعد نزولها القاهرة. عايدة مازالت بريئة لم تتلوّث بعد، رغم محاربة الجميع لها. السوق يريدها أن تعمل بالإعلانات، بواب العمارة يتحرش بها، صاحبة العمارة تطردها، حبيبها الروائي لا يريد الالتزام بعلاقة واضحة معها.
فنانة شابة مهزومة وطاهرة ونقية، جميلة وبريئة ومناضلة، ومحبة للحياة رغم كل الموات الذي يحاوطها (هل تذكرنا هذه الأوصاف بشئ)، بالطبع تذكرنا بشيء، لأن عايدة ليست بني آدم، عايدة هي رمز بالأحرى، رمز لجيل الثورة المهزوم، بل هي رمز مزدوج لـ:مصر «الفلاحة»، وللفن «الممثلة المبدعة».
سميحة وياسين أيضًا ليسوا بني آدمين. سميحة بورجوازية جريئة حرة مجنونة، تحب الكحول والرقص ولسانها طويل، متحررة في إظهار عواطفها تجاه الرجال. سميحة ترمز لمصر الستينات، أو مصر «أفلام السيتينات»، الليبرالية المتفائلة، مصر التي ترتدي مايوه على الشاطئ، تلعب البلياردو وتذهب إلى النادي، مصر صور النوستالجيا التي تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر فيها فتيات جامعيات بملابس «متحررة»، وكلهن إقدام وحرية وإلخ إلخ. أما ياسين فهو مراهق بقلب نقي، رمز للجيل الأصغر الذي نأمل أن يأتي التغيير على يديه.
بهذا يصل الرمز في زهرة الصبار إلى درجته القصوى، للحضور الطاغي، لدرجة أنه يلغي قدرته التعبيرية. من المفترض في الرمز أنه جاء لتوضيح شيء، تركيزه، ضغطه، تكثيفه، لبروزته، لأننا لا نستطيع التعامل المباشر مع الواقع، هو ليس خيال أو فانتازيا ولا يقترح عالمًا موازيًا، وإنما هو ضغط لكل معطيات الواقع المعقدة في عدد أقل من المعطيات، ليسهل التعامل معها، أو لتقريبها. يرتضي الرمز بالواقع كمرجعيته الأساسية، ويهدف في النهاية، ليكشف لنا الواقع، ليفتح عيوننا عليه. هو هنا مجرّد وسيط رسول.
ولكن ما هو الواقع الذي من المفترض أن زهرة الصبار يرمز إليه؟
بينما ينبع الرمز في زهرة الصبار من توحّد مبالغ فيه مع الذات، «ذات الفنان»، لدرجة انصهار كل معطيات العالم (مصر/ الثورة) فيها، فإن الواقع الذي يشير له هذا الرمز ليس واقعه كفنان، وإنما هو واقع البلد/الوطن، لكن الإشكالية أن هذا فالخطاب الرثائي للفيلم عن الفن والحالة الشاعرية لهزيمة فناني وسط البلد، يتماهى بشكل تام مع خطاب هزيمة الثورة، وفي نفس الوقت يتماهى مع خطاب الدولة الرسمي مع الوطن.
فهذا الولع بفكرة الفنان الشهيد لا تنبع فقط من من تعريف الفنان كروح منذورة للتطّهر المسيحي، ولا من طزاجة عهد بالثورة، ولكنها هنا تأخذ وضعها بالخطاب الرسمي المصري تجاه الوطن: مصر، الفلاحة البريئة الصلبة التي يتآمر عليها الجميع. الفنان الشهيد مقابل الوطني الشهيد. لا يجب أن نترك الوطن، يجب أن نضحي من أجله.
في أحد المشاهد، وبعد أن يذهب كل من سميحة وياسين وعايدة، ليبيعوا سلسلة سميحة المتوارثة من الجدود والتي تحمل ذكريات، يقطع ياسين عملية البيع، ثم يقول لصاحب المحل بمنتهى الإحساس بالتفوق الأخلاقي: احنا مش هنبيع. في مشهد آخر يعترف لنا صديق عايدة، أنه ترك صديقته الألمانية التي كان يحبها، لأنه يخاف أن يترك «البوفيه» الذي ورثه عن أمه والتي ورثته بدورها عن أمها. تخبرنا أيضًا سميحة في لقطة أخرى أنها تطلقت من رجل لأنه كان يريدها أن تسافر معه للخارج وهي لا تستطيع أن «تترك»وطنها.
هذه المباشرة في إثبات التفوق والطهر، تأتي هنا بنفس مفردات الخطاب الرسمي تجاه الوطن: «احنا مش هنبيع و مش هنسافر ومش هنسيب بلدنا»، مفردات كلاسيكية ضد البيع وهجرة الوطن وكل استعاراته: الذكريات/ الماضي/ التاريخ. كل هذا لا يمكن إلا أن يذكر بسلسلة الأفلام الوطنية، التي ينسحق فيها الإنسان مقابل خلاص الوطن. سردية المظلومية والصليب، والهزيمة، تنسج خيوطها هنا من نفس رموز المنتصرين.
يحمل فيلم زهرة الصبار رؤية مرتبكة تجاه تعريفه للفن، تتراوح بين الخطاب الرجعي الذي يحتقر الفن ويراه «رسالة» تنويرية للمجتمع المتخلف، وبين خطاب يعترف بالحق في التعبير عن الذات بالطريقة التي يراها. فمن موازاة مقحمة بين الفنان وبين «الوطني»، إلى مشاهد تحاول التعبير عن الحياة الداخلية لفنان جاءت بدورها مفتونة بحالة «الاغتراب» باعتبارها نقطة تفوق وتعالى أخلاقي، خرج فيلم زهرة الصبار مرتبكًا تجاه ما يريد قوله.
النبي المهزوم في زهرة الصبار لم يبحث عن دينه الذي يريد التبشير له، ودعوة الناس للإيمان به. وإنما حمل تمثلات «براقة» لأفكار عن الفن وعن الوطن وعن الثورة. لهذا كان السؤال الأساسي الذي فكرتُ فيه وأنا أشاهد «زهرة الصبار» ليس كيف عبّر الفيلم عن نفسه مثلما سخر البعض من أسلوبه، ولكن ماذا كان يريد التعبير عنه من الأساس؟