صورة الفنان عن نفسه في فيلم زهرة الصبار

20016295441510509981

ينطلق فيلم زهرة الصبّار من حالة الافتتان الذاتي والرثاء الذاتي المميزة لعوالم الفنان المهزوم. الفنان المصلوب المعذَّب في استعارته عن فكرة النبي الذي لا يؤمن به قومه، الذي يتألم ويعتصره الألم، ويحمل على عاتقه رسالة، ويسير فوق الأشواك، ويقذف بالطوب، ويطرد ويشرّد. النبي المهزوم، الذي لا يصدقه أحد بينما هو مازال “مصدق” في رسالته.

يحكي الفيلم عن رحلة ثلاثة: ياسين وسميحة وعايدة في شوارع القاهرة، للبحث عن مأوى وخلاص بعد أن طردت صاحبة العمارة الأخيرتين من غرفتيهما فوق السطوح. يرتبط الثلاثة بالفن بطريقة ما أو بأخرى. عايدة ممثلة تحاول شق طريقها، سميحة التي تنتمي لجيل السبعينات، كانت تتحرك في شبابها وسط شلل مثقفي هذه الفترة. أما ياسين فهو مراهق يغني راب ويحاول إنشاء راديو على الإنترنت.

يقول منشور الفيلم عن الثلاثة: «هم ثلاثة غرباء جمعتهم الظروف». هم ليسوا ثلاثة غرباء، هم ثلاثة أجيال مصرية تمثل ليس فقط مراحل مختلفة من عمر هذه البقعة الموبوءة، ولكن ثلاثة تمثيلات لنموذج «الفنان» في كل فترة. أما الظروف التي جمعتهم فهي «مصر» بالطبع.

لذا يمكن اعتبار هذا الفيلم صورة مصغّرة/ مرآة تختصر رؤية معينة لمخرجة الفيلم عن دور «الفنان»، والتي يبدو أنها لا تمتلكها بمفردها، وإنما في الغالب تنبع من تمثّلها لتخيلات الفنانين في مصر عن موقعهم وعن أنفسهم.

«انتي لسه مصدقة في إن الفن رسالة والكلام الفارغ ده؟»

تقول هند لصديقتها عايدة، حين تقابلا لأول مرة منذ سنوات طويلة، صدفة في إشارة مرور. تنادي هند على عايدة لتركب معها السيارة. تحجبت هند وتزوجت رجلًا غنيًا اشترط عليها أن تقطع علاقتها بالشلة القديمة. اعتزلت الفن وتطلب الآن من الله أن يغفر سيئاتها أيام كانت “مؤمنة” به.

تنقبض عايدة من تهكم هند، قبل أن تقطع حديثهما بائعة «فل» تخترق زجاج السيارة. تنهرها هند، بينما تشتري عايدة “الفل” وتناوله لهند، التي تشمه مشمئزة: «يع راشينه كولونيا ولاد الحرام». تتألّم عايدة لما آل إليه حال صديقتها، وفقدانها براءتها وشغفها بتفاصيل الحياة الجميلة البسيطة.

يلخص هذا المشهد مقاربة يرسمها الفيلم بين الفن وبين البراءة والطهر، ويقوي هذه المقاربة بمفارقة أن الطاهرة ليست المتدينة ذات الإيمان الظاهري وإنما الفنانة، رسولة الإله، والتي عذابها وهزيمتها في الدنيا إشارتان لفساد الزمن.
يعتبر هذا المشهد مدخلًا لقراءة الفيلم: ماهي فكرة زهرة الصبار عن الفن؟

«أنا بحب بنت الفلاحة اللي متدارية جوه الفنانة الممثلة المبدعة»
يقول مراد حلمي أستاذ عايدة الذي تلقفها بعد نزولها القاهرة. عايدة مازالت بريئة لم تتلوّث بعد، رغم محاربة الجميع لها. السوق يريدها أن تعمل بالإعلانات، بواب العمارة يتحرش بها، صاحبة العمارة تطردها، حبيبها الروائي لا يريد الالتزام بعلاقة واضحة معها.

فنانة شابة مهزومة وطاهرة ونقية، جميلة وبريئة ومناضلة، ومحبة للحياة رغم كل الموات الذي يحاوطها (هل تذكرنا هذه الأوصاف بشئ)، بالطبع تذكرنا بشيء، لأن عايدة ليست بني آدم، عايدة هي رمز بالأحرى، رمز لجيل الثورة المهزوم، بل هي رمز مزدوج لـ:مصر «الفلاحة»، وللفن «الممثلة المبدعة».

سميحة وياسين أيضًا ليسوا بني آدمين. سميحة بورجوازية جريئة حرة مجنونة، تحب الكحول والرقص ولسانها طويل، متحررة في إظهار عواطفها تجاه الرجال. سميحة ترمز لمصر الستينات، أو مصر «أفلام السيتينات»، الليبرالية المتفائلة، مصر التي ترتدي مايوه على الشاطئ، تلعب البلياردو وتذهب إلى النادي، مصر صور النوستالجيا التي تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر فيها فتيات جامعيات بملابس «متحررة»، وكلهن إقدام وحرية وإلخ إلخ. أما ياسين فهو مراهق بقلب نقي، رمز للجيل الأصغر الذي نأمل أن يأتي التغيير على يديه.

بهذا يصل الرمز في زهرة الصبار إلى درجته القصوى، للحضور الطاغي، لدرجة أنه يلغي قدرته التعبيرية. من المفترض في الرمز أنه جاء لتوضيح شيء، تركيزه، ضغطه، تكثيفه، لبروزته، لأننا لا نستطيع التعامل المباشر مع الواقع، هو ليس خيال أو فانتازيا ولا يقترح عالمًا موازيًا، وإنما هو ضغط لكل معطيات الواقع المعقدة في عدد أقل من المعطيات، ليسهل التعامل معها، أو لتقريبها. يرتضي الرمز بالواقع كمرجعيته الأساسية، ويهدف في النهاية، ليكشف لنا الواقع، ليفتح عيوننا عليه. هو هنا مجرّد وسيط رسول.

ولكن ما هو الواقع الذي من المفترض أن زهرة الصبار يرمز إليه؟

بينما ينبع الرمز في زهرة الصبار من توحّد مبالغ فيه مع الذات، «ذات الفنان»، لدرجة انصهار كل معطيات العالم (مصر/ الثورة) فيها، فإن الواقع الذي يشير له هذا الرمز ليس واقعه كفنان، وإنما هو واقع البلد/الوطن، لكن الإشكالية أن هذا فالخطاب الرثائي للفيلم عن الفن والحالة الشاعرية لهزيمة فناني وسط البلد، يتماهى بشكل تام مع خطاب هزيمة الثورة، وفي نفس الوقت يتماهى مع خطاب الدولة الرسمي مع الوطن.
فهذا الولع بفكرة الفنان الشهيد لا تنبع فقط من من تعريف الفنان كروح منذورة للتطّهر المسيحي، ولا من طزاجة عهد بالثورة، ولكنها هنا تأخذ وضعها بالخطاب الرسمي المصري تجاه الوطن: مصر، الفلاحة البريئة الصلبة التي يتآمر عليها الجميع. الفنان الشهيد مقابل الوطني الشهيد. لا يجب أن نترك الوطن، يجب أن نضحي من أجله.

في أحد المشاهد، وبعد أن يذهب كل من سميحة وياسين وعايدة، ليبيعوا سلسلة سميحة المتوارثة من الجدود والتي تحمل ذكريات، يقطع ياسين عملية البيع، ثم يقول لصاحب المحل بمنتهى الإحساس بالتفوق الأخلاقي: احنا مش هنبيع. في مشهد آخر يعترف لنا صديق عايدة، أنه ترك صديقته الألمانية التي كان يحبها، لأنه يخاف أن يترك «البوفيه» الذي ورثه عن أمه والتي ورثته بدورها عن أمها. تخبرنا أيضًا سميحة في لقطة أخرى أنها تطلقت من رجل لأنه كان يريدها أن تسافر معه للخارج وهي لا تستطيع أن «تترك»وطنها.

هذه المباشرة في إثبات التفوق والطهر، تأتي هنا بنفس مفردات الخطاب الرسمي تجاه الوطن: «احنا مش هنبيع و مش هنسافر ومش هنسيب بلدنا»، مفردات كلاسيكية ضد البيع وهجرة الوطن وكل استعاراته: الذكريات/ الماضي/ التاريخ. كل هذا لا يمكن إلا أن يذكر بسلسلة الأفلام الوطنية، التي ينسحق فيها الإنسان مقابل خلاص الوطن. سردية المظلومية والصليب، والهزيمة، تنسج خيوطها هنا من نفس رموز المنتصرين.
يحمل فيلم زهرة الصبار رؤية مرتبكة تجاه تعريفه للفن، تتراوح بين الخطاب الرجعي الذي يحتقر الفن ويراه «رسالة» تنويرية للمجتمع المتخلف، وبين خطاب يعترف بالحق في التعبير عن الذات بالطريقة التي يراها. فمن موازاة مقحمة بين الفنان وبين «الوطني»، إلى مشاهد تحاول التعبير عن الحياة الداخلية لفنان جاءت بدورها مفتونة بحالة «الاغتراب» باعتبارها نقطة تفوق وتعالى أخلاقي، خرج فيلم زهرة الصبار مرتبكًا تجاه ما يريد قوله.

النبي المهزوم في زهرة الصبار لم يبحث عن دينه الذي يريد التبشير له، ودعوة الناس للإيمان به. وإنما حمل تمثلات «براقة» لأفكار عن الفن وعن الوطن وعن الثورة. لهذا كان السؤال الأساسي الذي فكرتُ فيه وأنا أشاهد «زهرة الصبار» ليس كيف عبّر الفيلم عن نفسه مثلما سخر البعض من أسلوبه، ولكن ماذا كان يريد التعبير عنه من الأساس؟

وعلى صعيد آخر : سنوات الأرشيف وإعادة ترتيب الفولدر

5أنا مقابل العالم. الشخصي مقابل العام، الغربة مقابل الوطن ؛كل هذه ثنائيات كمدخل لقراءة فيلم محمد شوقي حسن القصير” وعلى صعيد آخر”، والذي أُنتج بمنحة من المؤسسة العربية للفنون والآداب” آفاق” تحت مشروع هادف لإتاحة الفرصة لمخرجين شباب عرب، لعمل أفلام عن علاقتهم بما يحدث في البلاد العربية التي تمور بها الأحداث بعد 2011، تحت اسم “هم والعالم”. لكن فيلم شوقي هذا مع فيلمه السابق ” بلغني أيها الملك السعيد” يفتحان ملف التعامل مع الأرشيف بشكله الأوسع.

الأرشيف / نحن
هذه الأيام، هي الأيام الذهبية للعب مع الأرشيف؛ تريند عالمي جديد يكتسح، ترميم القديم، إعادة اكتشاف ” جواهر مدفونة”. البشرية تراجع تاريخها، تقيمه، تتفحصه، تتشكك فيه. في سيماتيك حضرت ورشة مع آلاء يونس للتعامل مع الأرشيف. في الأيام الأولى اندهشت من ترديد كلمة ” الأرشيف” بالألف واللام، هذا الشكل من التعريف الذي يضمن قداسة المطلق المجهّل غير المحدد، كما يعترف بمسافة نضعها بيننا وبينه والأكثر من ذلك الانطواء صراحة على دلالة ” الإغلاق”. هناك أشياء حدثت وانتهت. البشرية قدمت أشياء، أصبحت أرشيفاً. ونحن الآن في مرحلة ما بعد الأرشيف.

الأرشيف / أنا

3
من فيلم بلغني أيها الملك السعيد لمحمد شوقي حسن

أتاح التسارع التكنولوجي الكبير في السنين الأخيرة إمكانية الأرشفة ” الفردية”. قبل ذلك اعتبرت الأرشفة فعلاً جمعياً ، حكراً على الحكومات والمؤسسات الكبيرة التي تتولى ترتيب المُنجز وأرشفته بطريقة معينة ، يستمد فيها المنتج قيمته من أهميته في السياقات العامة مثل التاريخ، أول فيلم يتم فيه استخدام تقنية كذا، معبر عن قضية ما، ينتمي لموجة معينة وهكذا. الأرشيف العام في المؤسسة العامة، نتعامل معه بشكل عام.
ثم وعلى حين غرة، في عالم مثقل بنفسه يتطور تطوراً سريعاً يكنس كل شيء في طريقه ؛ مقصراً ومكثفاً طول التجربة الإنسانية، وجد الكائن البشري نفسه في غرفة مغلقة مع أجهزة الكترونية حديثة وأرشيف. ففي يوم ليس ببعيد، استيقظت البشرية من النوم، لتجد تراثها متاح على شاشة مضيئة متصلة بأسلاك تحت البحر، هكذا فجأة، وبدون تمهيدات طويلة. إنه شعور العَجز والطفولة في نفس الآن. ماذا سنفعل بكل هذا الأرشيف؟ أو بالأحرى ماذا سيفعل الفرد الشخص بالأرشيف العام؟

1

عادةً هناك ثلاثة إجابات: إما نقدسه ، أو نتجاهله، أو نستخدمه.
الجماعة ستقرر عبادة التاريخ، صنعوا صفحات على الفيس بوك أو اليوتيوب، يضعون فيها كل ما يمكنه زغزغة الحنين أو رقرقة الدموع في العين. يتجمعون حول الفيديو القديم، أو الأغنية الكلاسيكية، أو صفحات من أوراق قديمة، يكونون حولها حلقة دائرية ثم يبدأون في تقديم طقوس العبادة كقبيلة إفريقية ترقص حول إله خشبي في غابة بعيدة. لماذا نحِنّ للماضي؟ هل لأننا مثقلون به أم لأننا فارغون ليس عندنا شيئاً لنقوله؟.
أما الفرد فسيصنع فيلمين قصيرين. في فيلمه الأول ” بلغني أيها الملك السعيد”، لعب شوقي مع الأرشيف الجمعي المختزن داخله من الطفولة، والذي تسرب إليه من محطات البث العامة من راديو وتلفزيون ، فحضر على طول التراك الصوتي للفيلم بمقتطفات منتقاة ومنتزعة من سياقها لحكايات تبدو بريئة للغاية، طفولية جداً، اختار شوقي منها ما أراد مركباً إياها على فيديو لذيذ تعمد إعطاءه إحساس الهوم فيديو، بما يجعله وكأنه أرشيف شخصي لشوقي في مقابل الأرشيف الجمعي العام.

في فيلم ” وعلى صعيد آخر” لعب شوقي مع أرشيف حديث للغاية، ولكنه في نفس الوقت مصبوغ بصبغة تاريخية، كونه مرتبط بلحظة استثنائية ومكثفة وهي لحظة الثورة،فمثلما استيقظت البشرية لتفاجأ ب أرشيفها/ تاريخها على شاشة مضيئة، استيقظ هذا الجيل في مصر ليجد نفسه في قلب التاريخ/ الأرشيف. إننا في ثورة، إنه أمر مثل الذي كنّا نقرأ عنه فقط في الكتب أو نشاهده في الأفلام. لقد أصبحنا جزءاً من ” الأرشيف” بالألف واللام. ماذا سنفعل الآن؟.
الأرشيف يحاصر. الأرشيف بكل منتجاته التاريخية ،المعنوية والمادية يحاصرنا. الوطن ، التاريخ ، والجغرافيا ، الحكومة ، المجتمع ، الأهل ، العقد الإجتماعي ، حقوق الملكية الفكرية ، الدين ، الاقتصاد، كل هذه منتجات تاريخية لأرشيف بشري، ورثناها ونعيش الآن في أوج مراحل الحصار.

في ” وعلى صعيد آخر” حضرالتاريخ/ الأرشيف ممثلاً بالطنطنة الوطنية التي يرضعها الجميع مع الحليب في الصغر ويحقنون بها في المدرسة، يوماً بعد يوم، في التلفزيون، في السينما، في الشارع، في كل مكان. بالطبع كان موسم الطنطنة الوطنية هو الثورة. كلهم قالوا أنهم يفعلون ذلك من أجل الوطن سواء كانوا الشباب الثائر، أراجوزات الإعلام أو الحكومات المتعاقبة.

حمل التراك الصوتي مقتطفات من التوك شو المصرية إبان الثورة، تحديداً عام 2013، عام حكم الإخوان. المقتطفات المختارة غير هادفة لأن نقع على ظهورنا من الضحك، عند توازيها مع شريط صورة متناقض تماماً معها، بالتالي تبدأ الأحاديث من منتصفها، أو آخرها، أو أولها، قد تحمل نكتة أو لا، ولكنها كلها أحاديث متعلقة بالسياسة، تنقل الحالة التي دخل فيها سكان هذه المنطقة الجغرافية أربعة سنوات متواصلة، من المتابعة الهيستيرية لما يحدث في الشارع، أو تلك الأوقات التي نظل فيها نقتات طوال اليوم على ” إفيه” قاله أحد المعاتيه، أو صورة يتم تشييرها بغزارة تحمل دلالات ما على وساخة الطرف الآخر. تلك الحالة من الهذيان المستمر، الدوران حول أنفسنا كنحلة، التكلم في نفس المواضيع كل يوم، الذوبان في الشعارات، في الكلام الكبير، والتماهي مع الحالة الشاعرية.

الأرشيف/ اللغة كوسيلة تعبير

في أثناء عرض فيلم ” وعلى صعيدٍ آخر” في قاعة زاوية خلال أسبوع آفاق السينمائي، أخذ الجمهور يضحك بشدة. في الغالب يضحك الناس على النكت التي يستطيعون إحالتها لمألوفات في حياتهم. أتذكر ضحك تلك السيدة الخمسينية وهو تشاهد مقطع كوميدي لطفل بعمر السنتين يقاوم النوم غير مستطيع. كان فيديو سخيفاً للغاية، لكن بالنسبة لواحدة قضت جل عمرها مع أطفالها فإن التواصل مع المقطع كان أسهل¬¬¬. على ماذا كان يضحك الإنسان الأول؟ بالنسبة لي وبعد بعد عمر معين، أصبحتُ أعيد إنتاج مشاعر أليفة ومطروقة سلفاً. عند أي عمر يتوقف المرء عن إنتاج مشاعر جديدة؟.

435

المهم، سئل شوقي طبعاً، بعد الفيلم عن اختيار الترجمة “التجريبي” الذي اختاره. كيف يمكنك ترجمة Inside jokes. نحنُ ضحكنا عليها، لأننا أليفون معها، لكن كيف هي بعيون الأجنبي. عُرض الفيلم للمرة الأولى بمهرجان برلين، وعرفتُ من عبد الوهاب، زميلي بالورشة الذي حضر الفيلم هناك، أن الجمهور تفاعل معه، عادي، وأن هذه ال Inside jokes لم تكن عائقاً، فنوع الترجمة الذي اختاره شوقي أوصل ما يريده بالضبط.

اللغة بنت كلب. اخترع الإنسان الأول اللغة ليعبر بها عن نفسه. ونحنُ أطفال تعلمنا اللغة لنعبر بها عن احتياجاتنا الأولية، ماما أنا عاوزة أكل، ماما أنا عاوزة أدخل الحمام. استخدمنا اللغة لنعبر عن احتياجاتنا البيولوجية. عند هذه اللحظة كانت اللغة تؤدي دورها، الذي خُلقت من أجله، لتسهيل التواصل، وتسهيل الحياة. ثم نكبر، لتتحول اللغة من وسيلة تعبير لحوت يلتهمنا، يقزمنا ويطمرنا تحته لنختفي تماماً، نتحول لتلك الكائنات المبقبقة كلاماً يُقال لأنه لابد أن يُقال، أنا بحبك/ ده عشان مصر/ طبعاً ده عمنا وعلى راسنا من فوق/ ده مذكور في القرآن؛ أو لتحظى بالمباركة الاجتماعية؛ أو الأفدح حين نستخدمه لتسهيل التواصل مع الآخرين، فنستعمل الكلمات التي نظن فيها اشتراك الدلالة، الأمر الذي قد يكون مزيفاً. اللغة غدارة والوقوع في فخها مغوي.

الوطن حلو، والحب حلو وانت حلو بس الغربة وحشة، والأعداء متربصون. إننا منقوعون في هذا. في أوقات كثيرة احتفلنا بوجودنا في اللحظة التاريخية، لمجرد هذا الوجود، فدخولنا فيها كان صدمة، ولمّا لم نجد ما نعبر به عن نفسنا فأعدنا استخدام شعارات قديمة، تخص انتفاضات أخرى، لم يكونوا يعرفون ماذا يقولون فأخذوا في استهلاك القديم، وهم سكارى من الفرح أن أتيحت لهم الفرصة لإعادة تدويره، للتواجد في حالة شبيهة له. ومع جِدة اللحظة وطزاجتها تمت موازاتها بكلام قديم، لا يخصها ولا يخص المشاركون في صناعة “الحدث”.

في فيلم شوقي، يتكلم محمود سعد مع أحدهم عن الجيش والثقة في الوطن إلخ. في الترجمة الإنجليزية، لحديثهما، يخلّص شوقي كل هذا اللغو اللغوي من حواشيه، مكتفياً بترجمة مختصَرة ومبتَذلة لما يقولون” في الجيش نحنُ نثق. مصر تجري في دمنا وشرايينا “. ينفض الكلام من سياقه، تاركاً الإكليشه في العراء، معزولاً وعرياناً ومكشوفاً، لتصبح ركاكته مباشرة وسخيفة وعاجزة. بهذه الطريقة استطاع توصيل ال Inside jokes، ما يقولونه هو لغو وطنطة. يسمع المشاهد الأجنبي كلاماً كثيراً، ثم لا يجد غير ثلاث كلمات في أسفل الشاشة مفصولة بمسافة أكبر من المعتاد، فيعرف أن ما يسمعه حشو كلام من الذي يُردّد إبان الأحداث الكبرى، وعندما يتوازي مع الصورة المقدمة، يصل المعنى كاملاً بدون التباس.

الأرشيف/ الصورة / نحن/ أنا

6

هناك رغبة في التحدث باسم ” احنا”. في السنوات الأخيرة حين تتجول في السوشيال تلاحظ ميل عام من جانب مؤيدي الثورة والمنتمين للأوساط الفنية والثقافية للتحدث باسم المجموعة، ومناقشات لا نهائية حول الموقف “الصحيح” الواجب اتخاذه، والأفدح في ما يتضمنه ذلك من إقرار ضرورة اتخاذ الجميع نفس الموقف تجاه شيء ما، سواء كان حدثاً سياسياً، أغنية، استيتس على الفيس بوك، أو حتى إفيه. هناك إحساس بضرورة الموقف الموحد، نابع من رغبة في الإحساس بالانتماء إلى ” كل”، أو ” جيتو”.

في فيلم شوقي، يغيب الأنا/ الشخص، عن الحضور في الكادر، عندنا كادرات مفرغة من الشخصيات، تعكس إحساس أن صوت الشخص الفردي مطمور ومهزوم تحت صوت الحدث العام الذي يصلنا من التراك الصوتي، الحقيقة أن الكادرات المفرغة ليست فقط معبرة عن اختفاء الأنا بسبب إغراق اللحظة التاريحية ولكن أيضاً بسبب ال” إحنا”.

ربما كانت هذه اللحظة من أكثر اللحظات الضاغطة على الوجود الفردي، الفرد فيها ممحي في مقابل المجموع، ربما لأنها لحظة ضعف معطل فيها الجميع عن الوجود/ عن ارتكاب الفعل، لأن مساحات ومسالك التحقق والإنجاز مغلقة بالضبة والمفتاح لذلك يبحث الفرد عن الجماعة عن ال” احنا” ليحتمي بها. أيضاً يلجأ إلى الجماعة والتاريخ في لحظة التيه والحراك، عندما يجد نفسه في لحظة سائلة مدعاة لقلقلة وجوده.

يبدأ الفيلم، بمشاهد داخلية متتالية لمنزل، لا نعرف أين هو. كادر لفازة بجوار الشباك، ثم كادر للصالة معلق بها بوستر فيلم عربي قديم، وهكذا، قبل أن تتنقل نفس الكادرات الثابتة الخالية من الأشخاص للشارع، حيثُ نفهم من الثلج والطقس أننا في بلد أجنبية غير معرفة بالاسم، وحتى هذه الكادرات خارج المنزل، يتم اختيارها بعناية، لتكون خالية قدر الإمكان من العنصر البشري، الذي وجوده في الفيلم محدود وهامشي إلى حد كبير، مثل رجل يسبح في كادر لحمام سباحة، أو سيدة في مطبخ محل لبيع الأسماك.

هذا قبل انتقال الكادرات لمصر، وهو الأمر الذي نعرفه بسرعة من كادر لرجل يتمشى على سطح عمارة مجاورة لمسجد، وينتهي الفيلم بكادر مصور من خلال ستارة بلاستيكية، لعامل يهد جداراً، صانعاً فجوة كبيرة فيه. وإذا ركزنا قليلاً يمكننا تبيّن الجملة على الجدار والتي تقول” يا نحلة لا ترقصيني ولا عاوز عسل منك”.

2

إذن عندنا كادرات مفرّغة من الشخصيات، تحكي لنا عن شخصية ما في الغربة، وحالة استقابلها لهذا الكم من المطاردات الصوتية الكلامية التي حاصرتنا أيام الثورة، وهي نفس فكرة فيلم ” بلغني أيها الملك السعيد” حيثُ التاريخ الشخصي في مقابل التاريخ الجمعي، ولكن بشكل شخصي أحببتُ “بلغني أيها الملك السعيد” أكثر من و” وعلى صعيد آخر” ، بسبب خفوت حدة المفارقة بين الصوت والصورة،فالمفارقة في ” وعلى صعيد آخر” نصلية وزاعقة تقلل من كثافة الحالة بالمقارنة ب” بلغني..” الذي يحمل عدد أكبر من الطيات المدكوكة داخله بنعومة.

الأرشيف/ اللغة كنص
يوازي شوقي هذه الصورة بهذا التراك، بنَصّ مصاحب. النصّ نفسه لا ” يبل ريقك” إذا كنتَ تبحث عن قفش سياق معين أو سرد محدد للفيلم. النص، الذي لدينا، هو لعب شوقي الشخصي مع نصوص أخرى من الأرشيف العام، أخذها من سياقها ووضعها في سياقات جديدة. بالصدفة مثلاً كان يقرأ أوراق النرجس لسمية رمضان،  وكتاب آخرون حين وجدهم مناسبين للحالة، فاختار بضعة سطور من هنا على بضعة سطور من هناك، خلطهم مع نص كتبه هو وطلع إلينا بنص جديد، تمشي سطوره أحياناً في منتصف الشاشة ، أو يظهر لنا فجأة بفونت أبيض على شاشة سوداء كفاصل من كادر لكادر.

الأرشيف/ الجغرافيا

7

الجغرافيا جزء من الأرشيف البشري، يختار شوقي عدم تحديد مكان تصوير الجزء الأجنبي. الجغرافيا شيء حزين وشخصي، ومع عالم التكنولوجيا الجديد، تهتز سمعة الجغرافيا الشخصية، وتصبح بشكلها القديم منتمية للأرشيف.

الأرشيف / التجريب

في هذا الفيلم استباح شوقي كل شيء، لعب مع التاريخ/ الأرشيف/ الصورة/ اللغة/ النص، جرّب كل شيء. في لقائنا معه في الورشة يقول على سبيل المثال” بصوا أنا جربت كل حاجة في الفيلم ده. خليت النص يمشي من فوق ومن تحت ومن الجنب ومن النص ومن كل حتة، دمجت نصوص كتير مع بعض، واتفرجت عليهم لحد ما وصلت لده.

بالنسبة لتراك الصوت، جربت كل الحلول المتطرفة، من أول اختيار أحاديث زاعقة ومنوّرة ومليان دلالات مبتذلة مباشرة من الإغراق الصوتي اللي احنا عايشين فيه، لحد تقليل الصوت للحد الأدني، لحد ما طلع التراك بالشكل اللي انتم سمعتوه ده.

بالنسبة للصورة، فكّرت في الأول يبقى فيه شخص بيتحرك في الكادرات، ما تبقاش فاضية كده، وبعدين توصلت للصورة دي،وبالنسبة لجزء التصوير بتاع مصر ده ماكانش مخطط له على الإطلاق، دي بالصدفة مادة كنت أنا مصورها ولقيتها لايقة على اللي عاوز أقوله”.

الذي يجعل الفيلم التجريبي تجريبياً هو التجريب. فيلم شوقي “وعلى صعيد آخر” هو دعوة للعب كل الألعاب الممكنة مع السينما. العالم لم ينتهي بعد، حتى لو كنا مثقلين بالأرشيف، فرغم أن هناك كماً هائلاً من التراث السينمائي، فالفن مازال جديد نسبياً، والحيل التي يمكن ممارستها معه مازالت سؤالاً مفتوحاً.

الفراغ الأثيري

أنطونيوني هو المخرج اللي بيثير عندي شعور إني عاوزة أتمشى معاه في الحديقة كل يوم الساعة سبعة الصبح قبل الناس ما يصحوا ويكون بيننا أحاديث رخوة وهادئة تسترسل في اللانهائية.
بيرجمان هو المخرج اللي بصوت عالي بشتمه وأنا بتفرج على أي فيلم له: ينعل ميتين أمك. عشان بيزنقني أنا ووساخات النفس البشرية في ركن ضلمة مع بعض.
ايريك رومير هو المخرج اللي ببقى عاوزة أكلمه في التليفون بالليل ، عشان احنا اصحاب بس هو مسافر، فبحكي له اللي حصل في اليوم
جودار هو المخرج اللي كنت أحب أقابله في سنة تانية جامعة ونزوغ من المحاضرات ونحط أوزو في قزايز مية ونحضر نشاطات جامعية فنية ونسف عليها
دولان هو المخرج اللي عاوزة أروح معاه بارتي  ونرقص  سوينج ونتكلم على الناس كأصدقاء قدام جايين يضيعوا وقت
ديفيد لينش هو المخرج اللي عاوزة أتبادل معاه الكتابات السرية المظلمة

نواه بومباك هو المخرج اللي عاوز أقعد معاه نشوف أفلام ونتكلم عنها ونقول نظرياتنا وآراءنا

كوراساوا هو المخرج اللي أحب أبقى مساعد ليه في الحاجات اللي ملهاش علاقة بالسينما، مدبر منزل مثلاً، زي ألفريد وباتمان كده

تاركوفسكي هو المخرج اللي ممكن أسافر معاه في روود-تريبّ طويل من غير ما نتكلم، ممكن نسمع مزيكا في العربية

سبايك لي هو المخرج اللي أحب أحضر له ورشة سينما

لينكلاتر طبعًا أحب أرغي معاه كتير جدًا جدًا عن الأفلام وعن كل حاجة تانية، ولو كنا أصغركنت أحب أنشط معاه في قضية بيئية أو سياسية مشتركة

 

سلسلة الحياة البرية الفلسطينية/ فيلم قصير 2016

FB_IMG_1454847164154

بغض النظر عن الاستعراض اللغوي الطويل ، أنا شايفة إنه كفيلم مفتعل ، مش بطال.
الفيلم متصور من شاشة جهاز التلفزيون، الكاميرا بتصور التلفزيون وهو بيعرض برنامج عن عالم الحيوان، فالماتيريال مثلاً طالعة بانعكاس لمبة النيون اللي في الأوضة على الشاشة. بينطلق الفيلم من حدوتة شخصية حصلت لصديقة المخرجة لما المستوطنين الإسرائيلين هاجموا بيتهم بحجة إنه ملكهم، وازاي ده خلاهم عايشين في رعب لعدة أسابيع من تكرار الهجوم.
الفيلم فيه سخرية مبطنة من فكرة المسرحية اللي الفلسطينين عايشين فيها وبيضطروا للتماهي معاها، وإن ازاي ده بيحول فقرات حياتهم لحياة برية بدائية. فكرة المسرحية منعكسة في المسافة اللي متاخدة من الحدث بالكاميرا اللي بتصور التلفزيون ثم بلعب المخرجة في الماتيريال بشوية حركات.

بصور انعكاس وشي على شاشة اللاب توب وفيلم شغال /
بصور نفسي وأنا باخد صورة لنفسي في المراية/
باخد صورة لنفسي و الإضاءة ضاربة في وشي فمايبنش/
بصور نفسي في انعكاس قزاز الشباك فيتداخل انعكاسي المشوش مع الباك جراوند اللي ممكن تكون الشارع،
بعمل فلتر للصورة ينعمها ويفصلها عن أصلها وأنزلها بهاش تاج فيه كلمات عامة وواسعة.

ليه يا بنفسج 1993

ليه يا بنفسج 1

_ يا منقولي، احنا جايين نصفي معاك حساب مسعود
_ مفيش بيني وبين مسعود العربجي أي حساب
_ لأ فيه ! خمرتك جابت له الوسواس
_ ايه يا أخويا؟ وسواس؟!
_ آه وسواس
كل ليلة يحلم بابنه الدكر وهو بيموت قصاد عينه
ياراجل يا مفتري يا ضلالي بتربي له الوسواس